قاضي القضاة في ميزان الفقه الإسلامي
بقلم : د. عبد الحليم منصور
لأول مرة في العالم ..إنجاب طفل من 3 آباء
بقلم : د. عبد الحليم منصور
لأول مرة في العالم ..إنجاب طفل من 3 آباء
****************************************
وقائع القضية : ولد أول طفل في العالم باستخدام تقنية خصوبة جديدة لـ "ثلاثة أباء"، حسب مجلة "نيو ساينتست" العلمية.
ويحمل الصبي البالغ من العمر خمسة أشهر الحمض النووي الطبيعي لأمه وأبيه، بالإضافة إلى قدر قليل من الشفرة الوراثية للمتبرع.واتخذ أطباء أمريكيون خطوة غير مسبوقة لضمان ألا يكون للطفل نفس الحالة الوراثية التي تحملها والدته الأردنية في جيناتها.
وولد الطفل قبل 5 شهور في المكسيك، وتقول المجلة إنه يتمتع بصحة جيدة.
ويقول خبراء إن هذه الخطوة تبشر بعهد جديد في الطب ويمكن أن تساعد الأسر الأخرى ذات الحالات الوراثية النادرة.
لكنهم يحذرون من أن هناك حاجة إلى مراجعة دقيقة لهذه التكنولوجيا الجديدة والمثيرة للجدل، والتي يطلق عليها اسم "تبرع الميتوكوندريا".
وليست هذه هي المرة الأولى التي ينجح فيها العلماء في تخليق طفل لديه الحمض النووي لثلاثة أشخاص - بدأت تلك الطفرة في أواخر التسعينيات – لكن الطريقة هذه المرة جديدة ومختلفة تماما.
أطفال من ثلاثة أطفال
الميتوكوندريا هي أجزاء صغيرة توجد داخل كل خلية من خلايا الجسم وتعمل على تحويل الطعام إلى طاقة قابلة للاستخدام.
تعاني بعض النساء من عيوب وراثية في الميتوكوندريا يمكن أن تنتقل إلى الأطفال. وفي حالة الأسرة الأردنية، كان هناك خلل يطلق عليه اسم "متلازمة لي" ثبت أنه قاتل لأي طفل يعاني منه.
ومتلازمة لي مرض وراثي يصيب الجهاز العصبي. وكانت الوالدة الاردنية قد فقدت اثنين من ابنائها لهذا المرض كما اجهضت 4 مرات. وابتكر العلماء عددا من الطرق للتغلب على هذه المشكلة.
واستخدم الفريق الأمريكي، الذي يقوده الدكتور جون زانغ من مركز نيو هوب للخصوبة في نيويورك والذي سافر إلى المكسيك للقيام بهذا الإجراء لأنه لا توجد هناك قوانين تحظر ذلك، الأسلوب الذي يأخذ كل الحمض النووي الحيوي من بويضة الأم بالإضافة إلى الميتوكوندريا السليمة من بويضات المتبرع لتكوين بويضة جديدة سليمة يمكن إخصابها بالحيوانات المنوية للأب.
وتستخدم هذه التقنية بويضة سليمة من المتبرع لتوفير الميتوكوندريا السليمة.
وتكون النتيجة هي أن يحمل الطفل 0.1 في المئة من حمضه النووي من المتبرع (الحمض النووي للميتوكوندريا) وجميع الشفرة الوراثية لصفات مثل الشعر ولون العين من الأم والأب.
والسؤال: مارأي الشرع في مثل هذه الحالات ؟
التعليق :
أولا – من المعلوم أن الإسلام دين يحث على العلم ، ذلك أن أول آية نزلت على قلب النبي عليه الصلاة والسلام كانت :" اقرأ باسم ربك الذي خلق " كما أن المتتبع لآي الذكر الحكيم ، يجد كثيرا من الآيات تدعو إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض لأخذ العبرة ، مثل قوله تعالى :" قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ " سورة الأنعام ، آية : (11) وقال تعالى :" قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ " سورة النمل ، آية : (69)
إن العلم هو فيض إلهي ، وهو هبة من الخالق جل شأنه لعباده ، وهو نور يستضاء به لمعرفة أسرار الكون ، وفهم نواميس الحياة ، وإدراك حكمة الله في الخلق ، الذي { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } سورة البقرة ، آية : ( 255) ينزل الله العلم بقدر ، ويأذن فيه لمن يشاء بحكمة ، ويوحي به إلى العقول شيئًا فشيئًا ، وآنًا بعد آن ، مع تناسب تام بين قدرات الإنسان- جميعها- على تحمل هذا الفيض الرباني ، وبين معطيات عصره ، وحاجات زمنه ، قطرة فقطرة ، وجرعة بعد جرعة؛ ليزداد الذين آمنوا إيمانًا ، وليهتدي الضال ، ويسترشد الحائر ، بآيات الله البينات التي أدركها ، وسننه المتتاليات التي وعاها ، ومعجزاته الظاهرات التي اكتشفها ، والتي يقف أمامها العلماء خاضعين خاشعين .
ولقد تواصلت آي القرآن تترى على مدى ثلاثة وعشرين عاما , يطالع الناس فيها دائما ما طالعهم في الآيات الأول, من توكيد لدني على هذا التناغم بين العلم والإيمان, وتلفت أنظارهم إلى هذا الكون بأفسح آفاقه وبأدق تفاصيله على حد سواء :
ولو تتبعنا آيات القرآن الكريم لوجدناه يلفت انتباه المسلمين إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض ، والأخذ بأسباب العلم لتنهض هذه الأمة من ، سباتها الطويل وتكون في مقدمة الأمم نهضة وعلما ، وتقدما ، قال تعالى :" يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ " سورة الرحمن ، آية : (33)
ومن ثم فكل علم نافع يخدم البشرية ، وينفع الإسلام والمسلمين ، يجب على المسلمين تعلمه ، والاستفادة منه ، لتتحقق لهم القوة ، وأسباب التقدم ،وكل علم ضار بالإنسان والبشرية بصفة عامة يحرم تعلمه لأنه سبيل من سبل الإفساد في الأرض ، والله لا يحب الفساد .
ثانيا – يدعو الإسلام إلى تعاطي أسباب الشفاء ، والوقاية من الأمراض ، ومنها العقم ، حتى تتحقق للأبوين رغبتهما في إنجاب البنين والبنات بقدرة الله سبحانه وتعالى ،
قال تعالى :" وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ " سورة النحل ، آية : (72)
وقال عز وجل : " لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) الآيتان من سورة الشورى .
ولقد دعت السنة النبوية المطهرة المسلمين إلى تعاطي أسباب الشفاء من ذلك ما يأتي : بما روي عن أسامه بن شريك قال : " قالت الأعراب: ألا نتداوى يا رسول الله ؟ قال نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً أو دواءً إلا داءً واحدا قالوا يا رسول الله : وما هو ؟ قال الهرم
2 ـ ما روي عن أبي الدرداء أن النبي قال :" إن الله أنزل الداء والدواء ، وجعل لكل داء دواء ، فتداووا ولا تتداووا بحرام "
وجه الدلالة : دلت هذه الأحاديث سالفة الذكر ، على طلب التداوي لمن به علة من العلل ، لأن لكل داء دواء كما دلت الأحاديث ، علمه من علمه وجهله من جهله ، لكن هذا الطلب مقيدا بألا يكون التداوي بحرام .
ثالثا – يجب أن يكون تعاطي أسباب الشفاء في إطار الضوابط الشرعية ، دون أن يتجاوزها إلى ما سواها ، فإن كان التداوي بمحرم كان ممنوعا منه شرعا ، لما روي أن النبي قال :" إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها " قَال ابن القيم : وَالْمُعَالَجَةُ بِالْمُحَرَّمَاتِ قَبِيحَةٌ عَقْلاً وَشَرْعًا ، أَمَّا الشَّرْعُ فَلِلْحَدِيثِ السَّابِقِ ، وَأَمَّا الْعَقْل ، فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا حَرَّمَهُ لِخُبْثِهِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى هَذِهِ الأْمَّةِ طَيِّبًا عُقُوبَةً لَهَا ، كَمَا حَرَّمَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل بِقَوْلِهِ : " فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ " سورة النساء / 160 .، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى هَذِهِ الأْمَّةِ مَا حَرَّمَ لِخَبَثِهِ ، وَتَحْرِيمُهُ لَهُ حَمِيَّةً لَهُمْ ، وَصِيَانَةً عَنْ تَنَاوُلِهِ ، فَلاَ يُنَاسِبُ أَنْ يُطْلَبَ بِهِ الشِّفَاءُ مِنَ الأْسْقَامِ وَالْعِلَل ، فَإِنَّهُ وَإِنْ أَثَّرَ فِي إِزَالَتِهَا ، لَكِنَّهُ يُعْقِبُ سُمًّا أَعْظَمَ مِنْهُ فِي الْقَلْبِ .
وبناء على ما سبق فإن فإذا كانت وسيلة التداوي محرمة ، حرم استخدامها ، لأن للوسائل حكم الغايات كما يقول العلماء .
رابعا – حفظ النسب من المقاصد الشرعية التي جاءت الشريعة لأجل حمايتها ، قال صاحب الجوهرة :
وحفظ دين ثم نفس مال نسب ** ومثلها عقل وعرض قد وجب .
ولأجل ذلك حرم الإسلام كل ما يؤدي إلى المساس بالأنساب ، من حيث اختلاطها ، أو أو النيل من سمعة أصحابها ، لأجل ذلك حرم الزنا لكون مؤديا إلى اختلاط الأنساب ، ومن ثم فكل ما أدى إلى ما أدى إليه الزنا ،من اختلاط الأنساب كان محرما ، كما هو الشأن في مسألة تأجير الأرحام ، وكما هو الشأن في بعض صور الاستنساخ البشري اللاجنسي عندما تؤخذ الخلية من رجل أو امرأة أجنبيين وتلقح بها بييضة الزوجة ثم توضع في رحمها ، أو رحم امرأة أخرى مستعارة ، فكل هذا محرم لما فيه من اختلاط الأنساب ، وكذا في تلقيح المرأة بماء رجل أجنبي عنها .
قال العلامة الجويني في غياث الأمم :" ومما لا يخفي رعايته في النكاح خلو المرأة عن نكاح الغير وعن اشتمال الرحم ماء محترم فان الغرض الأظهر في إحلال النكاح وتحريم السفاح ، أن يختص كل بعل بزوجته ، ولا يزدحم ناكحان على امرأة ، فيؤدي ذلك إلى اختلاط الأنساب "
خامسا – في هذه الواقعة التي معنا يحمل فيها هذا الصبي البالغ من العمر خمسة أشهر الحمض النووي الطبيعي لأمه وأبيه، بالإضافة إلى قدر قليل من الشفرة الوراثية للمتبرع.
، وهذا الأسلوب الذي يأخذ كل الحمض النووي الحيوي من بويضة الأم بالإضافة إلى الميتوكوندريا السليمة من بويضات المتبرع لتكوين بويضة جديدة سليمة يمكن إخصابها بالحيوانات المنوية للأب. وتستخدم هذه التقنية بويضة سليمة من المتبرع لتوفير الميتوكوندريا السليمة.
هذه الطريقة أو التقنية التي تستخدمها الهندسة الوراثية في عمليات التلقيح محرمة للآتي :
1 – لأنها تؤدي إلى اختلاط الأنساب لوجود طرف ثالث في هذه العملية ، وهو هذه المرأة المتبرعة بقدر من شفرتها الوراثية .
ولقد ذهبت المجامع الفقهية المختلفة في مصر والمملكة العربية السعودية إلى تحريم كل طرق الإنجاب والتلقيح التي يتدخل فيها طرف ثالث .
2 – كما أن هذه الطريقة من التداوي ممنوعة لكونها تداويا بحرام والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك وقال :" ولا تتداووا بحرام " وقال :" لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها "
3 – إن ما أدى إلى الحرام فهو حرام كما يقول العلماء ، وهذه الطريقة مؤدية إلى ولوج طريق محرم أدنى آثاره اختلاط نسب هذه الطفل بغيره فيكون محرما .
4 – سدا للذريعة : ذلك أن هذه الطريقة يمكن أن تفسح المجال في بعض الأحيان للتدخل العبثي من بعض الزوجات أو الأزواج للإنجاب بهذه الطريقة تحقيقا لرغبة الزوج الآخر وخوفا من طلبه للطلاق ، فربما يلجآن أحدهما أو كلاهما لهذه الطريقة .
5 - قوله : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" فإذا كانت هذه الطريقة تؤدي إلى وجود ريبة في نسب هذه الطفل ، فالمسلم مأمور بأن يدع ما به شك ، وعدم اطمئنان ، حتى لا يتسرب القلق والشك إلى نفسه ، وتظل حياته سعيدة ، آمنة ، مطمئنة .
سادسا – إن الإسلام وإن كان يدعو إلى العلم وبلوغ آفاقه ، في السماء والأرض ، فإن هناك جناحا آخر لم يغفله ، وهو الأخلاق ، إذ يجب أن يسير جناحا العلم والأخلاق جنبا إلى جنب ، بحيث لا يسبح أحدهما ، ويعطل الآخر عن السير إلى جواره ، لأن مغبة خطيرة تترتب على ذلك ، وهي مسألة التعدي على الكرامة الآدمية للإنسان ، التي جاءت الشرائع كلها لحمايتها ومنها شريعة الإسلام قال تعالى :" وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا " سورة الإسراء ، آية : (70)
ومن مقتضيات التكريم الإلهي عدم العبث بأصل الإنسان ، وبنسبه ، لأن هذا أصل مقرر شرعا من الأصول التي جاءت الشريعة وبالله التوفيق .